الخوف ودعوة واستغفار الله عز وجل



هل أنت من الباكين من خشية الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله تعالى وهب وأنعم، وهدى وأكرم، والصلاة والسلام على سيد الأمم وعلى آله وأصحابه أرباب الهمم.

أخي المسلم: استشعار عظمة الله تعالى.. وجلاله..وملكه الذي لا تحيط به العقول.. وجبروته..

إن ذلك شغل القلوب التي عرفت الله تعالى.. وأفردته بالعبادة والقصد..

إن القلوب إذا استشعرت عظمة ملك الملوك، ملكها الخوف منه تبارك وتعالى.. والخشية.. والرهبة..

وهذه أخي المسلم وقفة أخرى في سلسلة المحاسبة.. وسؤال آخر، ينبغي أن يسأله كل مسلم لنفسه،

هل هو من الباكين من خشية الله تعالى؟!

دموع الخائفين.. أغلى دموع!

وبكاء المخبتين.. أحلى بكاء!

وأنين المنيبين.. أصدق أنين!

خشية الله تعالى.. ملكت قلوب العارفين.. واستحوذت على أفئدة الصادقين..

البكاء من خشية الله تعالى، أصدق بكاء تردد في النفوس.. وأقوى مترجم عن القلوب الوجلة الخائفة..

قال يزيد بن ميسرة رحمه الله: "البكاء من سبعة أشياء: البكاء من الفرح،

والبكاء من الحزن، والفزع والرياء، والوجع، والشكر، وبكاء من خشية الله تعالى، فذلك الذي تُطفئ الدمعة منها أمثال البحور من النار!"

أخي المسلم: ما أحلى دموع الخشية إذا أهملت من أعين الخائفين! هنالك تتنزل الرحمات.. وتُكتب الحسنات.. وتُرفع الدرجات!

فهل حاسبت نفسك يوماً: أين كنت من تلك اللحظات؟! أين كنت من ركب الباكين؟!

كم من دموع لغير الله أريقت!

وكم من بكاء لأجل شهوات النفوس توالى!

قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: "لأن أدمع من خشية الله أحب إلى من أن أتصدق بألف دينار!"

فهنيئاً لمن أسعفته الدمعات.. قبل حسرات يوم اللقاء!

هنيئاً لمن تعجل البكاء.. قبل حسرات يوم اللقاء!

فيا من شغلته الدنيا بغفلاتها!

ويا من صدته الشهوات بأباطيلها!

أنسيت أنك في ملك ملك الملوك؟!

أنسيت أنك في مُلك من ليس كمثله شيء تبارك وتعالى؟!

تذكر الجبار في ملكه.. والمتعالي في كبريائه..

تذكر من إليه مرجعك.. ومن هو أقرب إليك من حبل الوريد!

تذكر من إذا أراد أمراً، قال له: كن فيكون!

عن عبيد بن عمير رحمه الله أنه قال لعائشة رضي الله عنها: "أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟"

قال: فسكتت ثم قالت: لما كانت ليلة من الليالي

قال: «يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي»

قالت: والله إني أحب قربك، وأحب ما يسرك

قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي

قالت: فلم يزل يبكي، حتى بل حجره

قالت: وكان جالساً فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بل لحيته!

قالت: ثم بكى حتى بل الأرض، فجاء بلال يأذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله تبكي،

وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!

قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد أنزلت علي الليلة آية ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ....}

هذا رسولنا صلى الله عليه وسلم وهذه خشيته! فحريٌ بكل مسلم أن يتفقد نصيبه من خشية الله تعالى.. ودموعه إذا تذكر الباكين..

وعظ مالك بن دينار رحمه الله يوماً فتكلم، فبكى حوشب، فضرب مالك بيده على منكبه،

وقال: ابك يا أبا بشر! فإنه بلغني أن العبد لا يزال يبكي، حتى يرحمه سيده، فيعتقه من النار.

فيا غافلين عن دموع الباكين!

ويا لاهين عن عظمة تلك اللحظات

أما علمتم أن دموع الخائفين أحب الدموع إلى الله تعالى؟!

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله» [رواه الترمذي]

أخي المسلم: دموع تذرفها لله تعالى، غنيمة غالية تفوز بها، وبُشرى لك إن حرصت عليها..

قال أبو حازم رحمه الله: "بلغنا أن البكاء من خشية الله مفتاح لرحمته"

وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله لأبي الجودي الحارث ابن عمير: "يا أبا الجودي، اغتنم الدمعة تسيلها على خدك لله"

فيا أيها الضعيف! لا تنسين أن أمامك شدائد يشيب لهولها الوليد!

لا تنسينَّ بيت الظلمة والدود! والقبر!

لا تنسينَّ أول ليلة تبيتها في قبرك!

لا تنسينَّ هول السؤال.. ساعة يبعثك الملكان وأنت وحيد.. وقد تفرق عنك الأهل والأصحاب!

شدائد تبعث الدموع مدراراً!

شدائد تملأ القلب أحزاناً!

وبين يدي تلك الشدائد! سكرات الموت وآلامه.. وحال الخاتمة ونهايتها!


لما حضرت سفيان الثوري الوفاة جعل يبكي ويجزع،

فقيل له: "يا أبا عبدالله عليك بالرجاء إن عفو الله أعظم من ذنوبك! فقال: أوعلى ذنوبي أبكي؟!

لو علمت أني أموت على التوحيد، لم أبال بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا!"

رجال عرفوا الطريق فسلكوه على بصيرة..

رجال عبدوا الله على علم..

فحاسب نفسك أيها الطالب طرق النجاة.. أما حركت تلك الأهوال مدامعك؟!

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال:

«عُرضت علي الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً»

فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه! قال: غطوا رؤوسهم ولهم خنين.. [رواه البخاري ومسلم]

وعن هانئ مولى عثمان رضي الله عنه قال: "كان عثمان إذا وقف على قبر، بكى حتى يبلَّ لحيته! فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟!

فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه، فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه، فما بعده أشد منه» 

قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت منظراً قط إلا القبر أفظع منه» [رواه الترمذي وابن ماجة]

وخطب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه مرة الناس بالبصرة، فذكر في خطبته النار، فبكى حتى سقطت دموعه على المنبر، وبكى الناس يومئذ بكاءً شديداً.

وقرأ ابن عمر رضي الله عنهما: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]

فلما بلغ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6]

بكى حتى خرَّ وامتنع من قراءة ما بعده.

وقال مسروق رحمه الله: "قرأت على عائشة هذه الآيات: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]

فبكت، وقالت: ربِّ مُنَّ وقني عذاب السموم"

وحدَّث من شهد عمر بن عبدالعزيز وهو أمير على المدينة: أن رجلاً قرأ عنده: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13]

فبكى حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه! فقام من مجلسه، فدخل بيته، وتفرق الناس.

وقال خالد بن الصقر السدوسي: "كان أبي خاصاً لسفيان الثوري، قال أبي: فاستأذنت على سفيان في نحر الظهر، فأذنت لي امرأة، فدخلت عليه وهو يقول: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]

ثم يقول: بلى يارب! بلى يارب! وينتحب، وينظر إلى سقف البيت ودموعه تسيل، فمكث جالساً كم شاء الله، ثم أقبل إليَّ، فجلس معي، فقال: منذ كم أنت هاهنا؟ ما شعرت بمكانك!"

أخي المسلم: أولئك هم أهل الخشية! رجال صدقوا في الإقبال على خالقهم تبارك وتعالى، فامتلأت قلوبهم بالخشية منه.. والخوف من بطشه..

فإن العين لا تدمع إلا إذا صفا القلب.. وطهرت النفس..

قال مكحول رحمه الله: "أرقُّ الناس قلوباً أقلهم ذنوباً"

وقال أحمد بن سهل رحمه الله: "قال لي أبو معاوية الأسود: "يا أبا علي من أكثر لله الصدق نديت عيناه، وأجابته إذا دعاهما"

فهل حاسبت نفسك أيها العاقل: كم مرة دمعت عيناك من خشية الله تعالى؟!

هل يتحرك قلبك إذا قرعك القرآن بوعيده؟!

هل يتحرك قلبك إذا رأيت القبور وسكونها؟!

هل تذكرت الموت وكرباته؟!

هل تذكرت القبر وأهواله؟!

هل تذكرت الحشر وشدائده؟!

هل تذكرت الصراط وفظائعه؟!

شدائد لا ينجو منها إلا أهل الصدق.. الذي استعدوا قبل الممات.. وأعدُّوا قبل الحسرات..

بكوا قبل يوم البكاء.. وهراقوا الدموع قبل يوم تصبح الدموع دماء!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله» [رواه الترمذي]

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار رجلٌ بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخانُ جهنم» [رواه الترمذي]

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سبعةٌ يظلم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» فذكر منهم «ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه» [رواه البخاري ومسلم]

أخي المسلم: إذا وقف الخلائق غداً بين يدي الله تعالى، فاز الباكون من خشية الله بتلك المنزلة الرفيعة، التي أخبرك عنها النبي صلى الله عليه وسلم.

فم أسعدهم بذاك الأمن!

وما أهنأهم بتلك الدرجات!

كان محمد بن المنكدر رحمه الله: إذا بك، مسح وجهه ولحيه بدموعه، ويقول: "بلغني أن النار لا تأكل موضعاً مسته الدموع"

فيا طالباً للأمن غداً.. عليك بالدموع تسفحها خشية وخوفاً من بطش ملك الملوك.. وقيوم السماوات والأرض!

عليك بالبكاء لعل الله أن يرحمك.. لعل دمعات قليلات تُسعدك بالنعيم الباقي..

{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ{31} هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ{32} مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} [ق: 31-33]

{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12]

أخي المسلم: ينبغي للمسلم أن يكون خائفاً وجلاً، لأنه يعلم عظمة الله تعالى.. وبطشه الشديد!

وقد وقف على الوعيد وهو يقرأ كتاب ربه تبارك وتعالى.. فإن غفل عن ذلك كله، فلا أغفل منه!

فيا من كُتب عليك الموت قبل أن تولد! أين فرارك من لقاء الله تعالى؟!

فكن خير قادم على الله تعالى.. وإياك أن تُقدم على ربك كما يقدم العبد الآبق! فاحذر وعيده.. وارج وعده.. ولا تركن إلى الدنيا فتهلك!

سُئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الخائفين؟

فقال: "قلوبهم بالخوف فرحة، وأعينهم باكية، يقولون: كيف نفرح والموت من ورائنا، والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى جهنم طريقنا، وبين يدي الله ربنا موقفنا؟!"

أخي المسلم: كم من أناس استبدلوا من دموع الخشية، ضحكات.. وغفلات..

كأنهم آمنوا ريب المنون.. وعظائم الأمور!

لا يهز القرآن قلوبهم.. ولا يحرك بوعيده دمعهم وشجونهم..

ضربت عليهم الغفلة بسياجٍ كثيف!

ورتعوا في أرض الأماني في مكان سحيق!

مر الحسن البصري بشاب وهو مستغرق في ضحكه، وهو جالس مع قوم في مجلس

فقال له الحسن: يا فتى هل مررت بالصراط؟!

قال: لا!

قال: فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟!

قال: لا!

قال: فما هذا الضحك؟!

فما رؤي ذلك الفتى بعدها ضاحكاً

فتدبر أيها العاقل في حالك.. وحاسب نفسك قبل أن تُحاسب!

ولا تكونن كأولئك الغافلين، الذي أسالوا دموع الهوى.. وانقطعت عنهم دموع الخشية!

تذكر فظائع الأمور التي ستقدم عليها، سكرات الموت! والقبر! وأهوال القبور! وفظائع يوم الحشر! والمرور على الصراط!

بكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه: فقيل له: "ما يبكيك؟!

فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ولكن أبكي على بُعد سفري، وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي!"

لمثل تلك الشدائد هملت دموع الخائفين.. وكثر وجل العارفين..

فاعمل أخي ليوم التراب.. وتهيأ لساعة الحساب.. واذرف الدمع قبل أن ترحل من دار الخراب.. وفر إلى الغالب الغلاب..

والحمدلله تعالى الحكم يوم الحساب.. والصلاة والسلام على النبي وآله والأصحاب.

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها



بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 10]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].

أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.





إن موضوع التوسل من أهم الموضوعات التي خاض فيها كثير من الناس واضطربوا وابتدعوا فيها ما ليس منها،

وأعرضوا عن التوسل المشروع الذي شرعه الله لنا في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم،

لذا فنحن في هذه الرسالة الصغيرة نحاول أن نجيب على كثير من التساؤلات التي تعلق في أذهان الناس


معنى التوسل في اللغة: قال ابن الأثير في كتابه (النهاية في غريب الحديث والأثر): "

هي في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، وجمعها: وسائل. يقال: وسل إليه وسيلة وتوسل".

معنى التوسل في الشرع: يتبين لنا معنى التوسل والوسيلة من خلال الاطلاع على تفسير الآيات التي ذكر فيها التوسل.

قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35]. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه (تفسير القرآن العظيم) مفسراً هذه الآية: يقول الله تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الكف عن المحارم وترك المنهيات، وقد قال بعدها {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}، قال ابن عباس: "أي القربة"، وكذا قال مجاهد وقال قتادة: "أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه"، وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه.

وفي تفسير قوله تعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء: 57].

روى الإمام مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيما قال عن هذه الآية: "نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم الجن، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون، فنزلت {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}" [شرح صحيح مسلم والنووي].

كما روى الإمام البخاري في صحيحه نحو هذا الحديث انظر (فتح الباري بشرح صحيح البخاري). وقال الحافظ بن حجر العسقلاني في شرح قوله: "فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم، أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن، والجن لا يرضون بذلك لكونهم أسلموا، وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة.. وهذا هو المعتمد في تفسير هذه الآية".

ومن هذه الآثار يتضح أن المقصود بالوسيلة ما يتقرب به إلى الله تعالى، ولهذا قال تعالى: {يَبْتَغُونَ} أي يطلبون ما يتقربون به إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة، كما قال قتادة في تفسير الآية الأولى: "أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه".

وكذلك تشير الآية الثانية إلى الظاهرة الغريبة المخالفة للشرع القويم والتكفير السليم، وهي ظاهرة توجه بعض الناس ببعض أنواع العبادة (مثل الدعاء والذبح وغيرها) إلى عباد الله، يخافونهم ويرجونهم، ومع أن هؤلاء العباد الذين يعبدونهم قد أعلنوا إسلامهم وأقروا لله بالعبودية. وللأسف الشديد فإن هذه الظاهرة الغريبة منتشرة في أكثر بلاد المسلمين، وهي صرف أنواع العبادة لغير الله تبارك وتعالى، مع أن المسلمين يقرؤون في صلاتهم كل يوم سبع عشرة مرة قول الله تعالى في سورة الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة: 5] ومعروف في اللغة العربية أن تقديم (المفعول) وهو قوله {إِيَّاكَ} على الفعل وهو قوله {نَعْبُدُ} يكون للتخصيص.

كما قال الحافظ بن كثير رحمه الله في تفسيره: "وقدم المفعول وهو إياك وكرر للاهتمام والحصر أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك وهذا هو كمال الطاعة، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين".

فلا يجوز صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى حتى ولو على سبيل التقرب إلى الله تعالى كما يزعم البعض قال الله تعالى عن المشركين عبّاد الأصنام أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر: 3]، أما بعض الناس الذين يزعمون أن الدعاء والذبح ليس من العبادة لمن يذبحون لهم ويظنون أن العبادة محصورة في الصلاة بالسجود والركوع ونحوه من العبادات الجسدية المباشرة فلهؤلاء نقول كل ما يتقرب به إلى الله مما شرعه الله ورسوله فهو عبادة، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين ( 162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163]، (نسكي: ذبحي). إذاً فالدعاء الذي يتوجه به لأصحاب الأضرحة والقبور من أخص أنواع العبادة فقد قال صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة» [صححه الألباني].

والعبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

فليحذر الذين تعوّدوا دعاء غير الله تعالى سواء كان المدعو نبياًأو جنياً أو صالحاً أو غيره، فهذا من صرف العبادة لغير الله وهو شرك أكبر والشرك الأكبر مخرج من ملة الإسلام لأنه صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله. ويأخذ الحكم نفسه الطواف بالقبور وما يلحق بذلك أثناء الطواف من استلام أركانها والتمسح بها وتقبيل أعتابها وتعفير الوجوه في ترابها والسجود لها أو عند أعتابها. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف: 5].

وقال صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار» [رواه البخاري].

من خلال ما سبق يتضح أن يتقرب إلى الله تعالى بالتوسل المذكور غير المشروع، ولم يفعله السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان.

وقد علّمنا الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم كيف نتقرب إليه بالأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها ولم يترك تلك الأعمال إلينا لتحددها عقولنا وأذواقنا لأن العقول والأذواق تختلف وتتباين وتضطرب وتتنازع ويصبح لكل إنسان أو مجموعة دين أو طريقة ولكن الله سبحانه أمرنا أن نرجع إليه في ذلك، ونتبع هديه وتعليمه، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

لهذا يجب علينا أن نعرف الوسائل المقرّبة إلى الله بالرجوع في كل مسألة إلى ما شرعه الله سبحانه وتعالى وبيّنه لنا رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه هي وصية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: «تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي» [صححه الألباني].

شروط العمل الصالح المتقبل:

قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110]. فكيف يكون العمل صالحاً وما هي الشروط الواجب توافرها في العمل ليكون صالحاً مقبولاً عند الله تعالى؟

• الشرط الأول: أن يكون العمل صادراً من مسلم موحّد، والدليل قوله تعالى عن الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} [سورة الفرقان: 23]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام: 88]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الزمر: 65].

وأمثلة ذلك كثيرة جداً في القرآن والسنة. فمهما عمل الكافر من أعمال وإن وافقت السنة وقصد بها وجه الله فهي مردودة عليه وعمله حابط.

• الشرط الثاني: لا بد أن يقصد صاحب العمل به وجه الله تعالى، والدليل: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه» [رواه مسلم].

فمن يعمل بعض الأعمال المقربة إلى الله تعالى ويظهرها ليقال عنه أنه صالح أو ليقال عنه كريم أو شجاع أو غيره فهذا وإن قصد وجه الله تعالى فعمله حابط مردود عليه لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، وابتغي به وجهه» [حسنه الألباني].

• الشرط الثالث: أن يكون العمل موافقاً لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ بن كثير رحمه الله في تفسيره: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ}: أي ثوابه وجزاءه الصالح {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} ما كان موافقاً لشرع الله {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بد أن يكون خالصاً لله صواباً على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم (أ.هـ).

أنواع التوسل المشروع:

مما سبق يتضح أنه لا بد لأي عبادة أن تتوافر فيها شروط العمل الصالح ليكون مقبولاً عند الله تعالى، وكما أننا قد نهينا عن دعاء المخلوقات مع الله تعالى، فقد شرع الله تعالى لنا بدلاً عنها أنواعاً من التوسلات المشروعة ندعوه ونسأله سبحانه بها والتي تكفّل سبحانه بإجابة الداعي بها، إذا توفرت شروط إجابة الدعاء الأخرى، فإليك أخي المسلم أنواع التوسلات المشروعة التي ورد بها دليل من كتاب الله تعالى والأحاديث الصحيحة:

1- التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه الحسنى، أو صفة من صفاته العليا:

قال الله تبارك وتعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [سورة الأعراف: 180]. وهذا النوع من التوسل هو أن تمجّد وتعظم وتحمد الله تعالى؛ وتقدسه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، قبل أن تدعو بما تريد وذلك ليكون الحمد والتمجيد والتعظيم والتقديس لله تعالى، وسيلتك إليه سبحانه، ليتقبل دعاءك ويجيبك إلى ما دعوت وتنال ما تطلب بإذن الله.

ومن الأمثلة على هذا النوع من التوسل ما رواه ابن ماجه والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ورجل قائم يصلي فلما ركع وسجد وتشهد دعا فقال في دعائه: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، إني أسألك".. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «تدرون بما دعا؟»، قالوا: "الله ورسوله أعلم". قال: «والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى» [رواه النسائي وصححه الألباني].

كما روى أبو داود في سننه والنسائي عن محجن بن الأدرع رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، إذا رجل قد قضى صلاته، وهو يتشهد فقال: اللهم إني أسألك يا الله بأنك الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد غفر له" ثلاثاً.

2- التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح عمله الداعي:

أي التوسل إلى الله تعالى بالأعمال والطاعات التي عملها الداعي خالصة لوجهه سبحانه. 

ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} [آل عمران: 193].

وقول الله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 109].

والأمثلة من السنة ما رواه أحمد وأبو داود عن بريدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: "اللهم إني أسألك أني أشهد أنك الله لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد"، فقال: «لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى، وإن دعي به أجاب».

ومنها كذلك حديث الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار، والحديث طويل وهو في صحيح مسلم.

ويتبين من هذه الأحاديث مشروعية التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة التي عملها الداعي خالصة لوجهه سبحانه في أوقات الرخاء وكما قال صلى الله عليه وسلم: "تعرّف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة" [رواه أحمد والطبراني].

3- التوسل إلى الله تعالى بدعاء رجل صالح حي حاضر:

ومثال ذلك: عندما تحل بالمسلمين مصيبة أو يقعون في ضيق وشدة فيحاولون الأخد بسبب قوي، فيذهبون إلى من يظنون ويعتقدون فيه الصلاح والتقوى والفضل والعلم، فيطلبون منه أن يدعو الله سبحانه وتعالى لهم ليفرج عنهم كربهم وشدتهم ويخفف عنهم همهم وغمهم. وهذا من أنواع التوسل المشروع الذي ورد به دليل في الشريعة المطهرة وهو ما رواه الإمام البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: "أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة فو الذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد، وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى. وقام ذلك الأعرابي- أو قال غيره- فقال: يا رسول الله تهدّم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا. فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فما يشير بيده إلى ناحية السحاب إلا انفجرت، وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي قناة شهراً، ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدّث بالجود" (فتح الباري).

هذا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أما بعد وفاته كان الناس يستسقون بمن يظنون ويتوسمون فيهم الخير والصلاح والقرب من الله تعالى، ومثال ذلك ما رواه الإمام البخاري عن أنس: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، قال: "فيسقون" (فتح الباري).

فسبب تحولهم من الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء بعم النبي صلى الله عليه وسلم، هو أنهم كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله تعالى أن يسقيهم، وذلك في حياته أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أصبح هذا الأمر غير ممكن وهذا هو السبب الذي جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتوسل بالعباس رضي الله عنه، أي يطلب منه أن يستسقي لهم ويدعو الله تعالى ليسقيهم ولم يستسق بالرسول صلى الله عليه وسلم، لأن المقصود بقوله نتوسل إليك أي بدعائه لا بذاته. وهذا الأمر غير ممكن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ومما يؤيد هذا الفهم أنه لم يثبت بإسناد صحيح أن أحداً من السلف الصالح استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وإنما استسقوا بالأحياء، كما روى ذلك ابن عساكر في تاريخه بسند صحيح عن التابعي الجليل سليم الخبائري: أن السماء قحطت، فخرج معاوية ابن أبي سفيان وأهل دمش يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر، قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فناداه الناس، فأقبل يتخطى الناس، فأمره معاوية فصعد على المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: "اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس وهبّت لها ريح فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم".

فهنا معاوية رضي الله عنه يتوسل بدعاء هذا الرجل الصالح، ولا يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن ذلك غير ممكن بعد وفاته وهذا هو فهم الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وما روي عن بعض الصحابة أو التابعين من التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا يصح إسناده إليهم رضي الله عنهم.

أما من فهم قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، من فهم هذا القول أن يتوسل بذات العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخطأ، لأنهم كانوا يطلبون منه أن يدعو الله ليسقيهم، وكذلك ما فعله معاوية رضي الله عنه عندما قال: "يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه"، فالتوسل هو بدعائهم وليس بذواتهم وإلا لكان التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأقرب من التوسل بعمه أو أحد الصالحين، ألا فليتذكر أولوا الألباب.

إن النصوص يجب أن تفهم على ضوء فهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن سلك سبيلهم من أئمة الهدى لأن اتباع سبيلهم فرض وواجب علينا، كما قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء: 115].

والغريب أن الذين يتمسكون ويدعون إلى التوسل بذوات الأنبياء والصالحين وأحياناً بقبورهم وأضرحتهم لا يستندون في ذلك إلى أي آية، أو حديث صحيح صريح فيه التوسل بمخلوق، ولا يجدون فيما يدعون إليه شيئاً من الأدعية الواردة في القرآن الكريم ولا في الأدعية الواردة في الأحاديث الصحيحة. فبما أن الله سبحانه وتعالى قد شرع لنا هذه الطرق الثثة للتوسل فلماذا نعرض عنها مع ثبوتها في القرآن والسنة وإجماع الأمة على مشروعيتها، ونعمد إلى أدعية وتوسلات مخترعة مبتدعة لم يشرعها الله تعالى ولم يفعلها قدوتنا رسوله صلى الله عليه وسلم وأقل ما نقول لهؤلاء كما قال الله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [سورة البقرة: 61].

مع العلم أن هذه الطرق الثلاثة الشرعية للتوسل تفي بكل ما يحتاجه العباد في مطالبهم في الدنيا والآخرة.. وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.