بر الوالدين وصلة الارحام وتربية الصغير


فضائل بر الوالدين:


بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبيَّ بعده، أمَّا بعد:

عاتبته مرَّةً على عقوق والديه، فقال لي بكلّ وقاحة وبرود: دعك منهما لقد كبرا وخرَّفا....

- هل هذا جزاء والديك أيُّها العاق!

- هل فعلا بك هذا عندما كنت ضعيفًا، لا يد تبطش، ولا سنّ تقطع، ولا لسان يتكلم..




- أين أنت من وصية الله -تعالى- بالوالدين؟ قال -تعالى-: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]، وقال -تعالى-: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف: 15].

وانظر يا من تقول: لقد كبرا وخرَّفا، ماذا قال -تعالى- عند كبرهما: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿23﴾ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24].

إنَّ برَّ الوالدين من أعظم الفرائض والواجبات ولذلك قرنه الله -تعالى- بعبادته وحده لا شريك له فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّـهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النِّساء: 36].

وسئل النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أي العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: «الصَّلاة على وقتها. قال: ثمَّ أي؟ قال: ثمَّ برُّ الوالدين. قال: ثمَّ أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله» [متَّفقٌ عليه].

وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر؛ لقول النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثًا) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين» [متفق عليه]، فكما أنَّ برَّ الوالدين جاء بعد الأمر بالتَّوحيد في أعمال البرِّ، كذلك جاءت منزلة العقول في التَّحريم بعد منزلة الشِّرك بالله -تعالى-.

وبرّ الوالدين -أيُّها الأخ المبارك- من أعظم أبوب دخول الجنَّة، فقد قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «رغم أنف، ثمَّ رغم أنف، ثمَّ رغم أنف قيل: من؟ يا رسول الله! قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنَّة» [رواه مسلم 2551].

أمُّك أمُّك أمُّك

والأمُّ لها أعظم الحقوق بعد حقِّ الله ورسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقد جاء رجلٌ فقال: «يا رسول الله، من أحقُّ النَّاس بحسن صحابتي؟ قال: أمُّك. قال: ثمَّ من؟ قال: ثمَّ أمُّك. قال: ثمَّ من؟ قال: ثمَّ أمُّك. قال: ثمَّ من؟ قال: ثمَّ أبوك» [متَّفقٌ عليه].

وليس معنى هذا أن يقصِّر الإنسان في برِّ أبيه، وإنَّما المعنى أن يزيد في برِّ أمِّه دون أن يقصِّر في برد أبيه.

فقد قال رجل للإمام مالك: والدي في بلد السُّودان كتب إليَّ أن أُقدم عليه، وأمِّي تمنعني من ذلك فقال له الإمام: أطلع أباك ولا تعصِ أمك.. أي اجتهد في أن يتفقا على رأيٍ واحدٍ حتَّى لا تغضب أحدهما.











ففيهما فجاهد

روي عبدالله بن عمر -رضي الله عنه- قال: جاء رجلٌ إلى رسوله الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فاستأذنه في الجهاد، فقال: «أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: قفيهما فجاهد» [متفقٌ عليه].

قال النَّووي: "هذا كلُّه دليلٌ لعظم فضيلة برِّهما وأنَّه آكد من الجهاد، وفيه حجةٌ لما قاله العلماء إنَّه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين... وأجمع العلماء على الأمر ببرِّ الوالدين، وإنَّ عقوقهما حرام من الكبائر" (شرح النَّووي على صحيح مسلم).

الوالد أوسط أبواب الجنَّة

عن أبي الدَّرداء -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «الوالد أوسط أبواب الجنَّة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أوِ احفظه» [رواه التِّرمذي 1900 وابن ماجه 2970 وصحَّحه الألباني].

فأين أنت من حفظ هذا الباب يا من ترفع الصَّوت على والدك وتنظر إليه بغيظٍ واحتقارٍ؟!

وقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «لا يجزي ولدٌ والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه» [رواه مسلم 1510].

قال الطّرطوشي: "وإنَّما جعل هذا جزاءً له، لأنَّ العبد وإن كان حيًّا فهو كالمعدوم، لأنَّ أوقاته مملوكه عليه مستغرقه في استخدامه وتصريفه إيَّاه... فكأنَّ المعتق أوجده من عدمٍ، كما أنَّ الولد كان معدومًا كان الأب سببًا لوجوده" (برُّ الوالدين للطّرطوشي (ص:26)).

أتراني جزيتُهما؟

عن أبي برده أنَّ ابن عمر -رضي الله عنه- شهد رجلًا يمنيًّا يطوف بالبيت حمل أمَِّّه وراء ظهره يقول:

إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر، ثمَّ قال: يا ابن عمر! أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرةٍ واحدةٍ.











الشِّرك لا يمنع البرَّ والصِّلة

عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنه- قالت: قدمت علي أمِّي وهي مشركةٌ، في عهد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فاستفتيت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم، قلت: إنَّ أمِّي قدمت وهي راغبةٌ، أفأصل أمِّي؟ قال: «نعم، صلي أمَّك» [متفق عليه].

قال الخطابي: "فيه أنَّ الرَّحم الكافرة توصل منَ المال ونحوه كما توصل المسلمة" (فتح الباري (5/234)).

فيا أخي!! هذا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يأمر أسماء بصلة أمِّها المشركة مع أنَّهما مسلمان موحدان بالله عابدان لله -عزَّ وجلَّ-؟! كيف بك يوم القيامة وقد عققت أباك وأمَّك وأبكيتهما؟! وفي الحديث أنَّ رجلًا جاء إلى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان. فقال: «ارجع عليهما فأضحكهما كما أبكيتهما» [رواه أبو داود 2528 والنَّسائي 4174 وابن ماجه 2260 وصحَّحه الألباني].

فهذا أبكى والديه لأنَّه كان يريد الهجرة مع رسول الله -صلَّى اله عليه وسلَّم- ومع ذلك فقد أمره رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالرُّجوع إليهما وإدخال السُّرور عليهما.. أمَّا أنت فبماذا أبكيت والديك؟

- أبكيتهما لأنَّك تستمع إلى الأغاني والملاهي!!

- أبكيتهما لأنَّك تشاهد ما حرَّم الله -عزَّ وجلَّ- على شاشات الفضائيَّات وعبر الانترنت!!

- أبكيتهما لأنَّك لا تعرف طريق المسجد ولا تصلِّي لله ركعةً!!

- أبكيتهما لأنَّك تصاحب الأشرار وتجتمعون على شرب الدُّخان وغيره مما يغضب الله -تعالى-!!

- أبكيتهما لأنَّك تهمل دروسك ومذاكرتك ولا تفرحهما بنجاحك كما يفرح الآباء بنجاح أبنائهم!!

فتب إلى الله أيُّها الرَّجل، وأحسن إلى والديك فيما بقى، واعلم أنَّه لا طريق إلى رضا الله -عزَّ وجلَّ- إلا بإرضاء الوالدين فقد قال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «رضا الرَّب -تبارك وتعالى- في رضا الوالدين، وسخط الله -تبارك وتعالى- في سخط الوالدين» [رواه الألباني 2503 في صحيح التَّرغيب وقال: حسن لغيره].

وإيَّاك إيَّاك أن يدعو عليك والداك، فإنَّ دعوة الوالدين على ابنهما مستجابه؛ لقول النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «ثلاث دعوات مستجابات لهنَّ، لا شكَّ فيهنَّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالدين على ولدهما» [حسَّنه الألباني 24 في صحيح الأدب المفرد].


في تربية الصبيان منذ الصغر



الصبي أمانة عند والديه، وقلبه جوهرة ساذجة، وهي قابلة لكل نقش، فإن عُوِّد الخير نشأ عليه وشاركه أبواه ومؤدبه في ثوابه، وإن عود الشر نشأ عليه، وكان الوزر في عنق وليه، فينبغي أن يصونه ويؤدبه ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قرناء السوء، ولا يعوده التنعم، ولا يحبب إليه أسباب الرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر‏.

‏ بل ينبغي أن يراقبه من أول عمره، فلا يستعمل في رضاعة وحضانته إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال، فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه، فإذا بدت فيه مخايل التمييز وأولها الحياء، وذلك علامة النجابة وهي مبشرة بكمال العقل عند البلوغ، فهذا يستعان على تأديبه بحيائه‏.‏ وأول ما يغلب عليه من الصفات شره الطعام، فينبغي أن يعلم آداب الأكل، ويعوده أكل الخبز وحده في بعض الأوقات لئلا يألف الإدام فيراه كالحتم، ويقبح عنده كثرة الأكل، بأن يشبه الكثير الأكل بالبهائم، ويحبب إليه الثياب البيض دون الملونة والإبريسم ويقرر عنده أن ذلك من شأن النساء والمخنثين، ويمنعه من مخالطة الصبيان الذين عودوا التنعم، ثم يشغله في المكتب بتعليم القرآن والحديث وأحاديث الأخبار، ليغرس في قلبه حب الصالحين، ولايحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق‏.‏


ومتى ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمول، فينبغي أن يكرم عليه، ويجازى بما يفرح به،

ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال تغافل عنه ولا يكاشف،

فإن عاد عوتب سرًا وخُوف من اطلاع الناس عليه، ولا يكثر عليه العتاب، لأن ذلك يهون عليه سماع الملامة،

وليكن حافظاً هيبة الكلام معه‏.‏ وينبغي للأم أن تخوفه بالأب، وينبغي أن يمنع النوم نهاراً، فإنه يورث الكسل،

ولا يمنع النوم ليلاً ولكنه يمنع الفرش الوطيئة لتتصلب أعضاؤه‏.‏

ويتعود الخشونة في المفرش والملبس والمطعم‏.‏ ويعود المشي والحركة والرياضة لئلا يغلب عليه الكسل‏.

‏ويمنع أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه أبواه، أو بمطعمه أو ملبسه‏.‏ ويعود التواضع والإكرام لمن يعاشره‏. ‏

ويمنع أن يأخذ شيئا من صبي مثله، ويعلم أن الأخذ دناءة، وأن الرفعة في الإعطاء‏. ‏ويقبح عنده حب الذهب والفضة‏.‏

ويعود أن لا يبصق في مجلسه ولا يتمخط، ولا يتثاءب بحضرة غيره، ولا يضع رجلا على رجل، ويمنع من كثرة الكلام‏.‏

ويعود أن لا يتكلم إلا جواباً، وأن يحسن الاستماع إذا تكلم غيره ممن هو أكبر منه، وأن يقوم لمن هو فوقه ويجلس بين يديه‏.‏



ويمنع من فحش الكلام، ومن مخالطة من يفعل ذلك، فإن أصل حفظ الصبيان حفظهم من قرناء السوء‏.‏ ويحسن أن يفسح له بعد خروجه من المكتب في لعب جميل، ليستريحبه من تعب التأديب، كما قيل‏:‏ "روح القلوب تعِ الذكر"‏.‏ وينبغي أن يعلم طاعة والديه ومعلمه وتعظيمهم‏.‏ وإذا بلغ سبع سنين أُمر بالصلاة، ولم يسامح في ترك الطهارة ليتعود، ويخوف من الكذب والخيانة، وإذا قارب البلوغ، ألقيت إليه الأمور‏.‏

واعلم‏:‏ أن الأطعمة أدوية، والمقصود منها تقوية البدن على طاعة الله تعالى، وأن الدنيا لا بقاء لها، وأن الموت يقطع نعيمها، وهو منتظر في كل ساعة، وأن العاقل من تزود لآخرته، فإن كان نشوؤه صالحاً ثبت هذا في قلبه، كما يثبت النقش في الحجر‏.‏ قال سهل بن عبد الله‏:‏ "كنت ابن ثلاث سنين، وأنا أقوم بالليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، فقال لي خالي يوماً‏:‏ ألا تذكر الله الذي خلقك‏؟‏ قلت‏:‏كيف أذكره‏؟‏ قال‏:‏ قل بقلبك ثلاث مرات من غير أن تحرك لسانك‏:‏ الله معي، الله ناظر إليّ، الله شاهدي، فقلت ذلك ليالي، ثم أعلمته، فقال‏:‏ قلها في كل ليلة إحدى عشر مرة"‏.‏

فقلت ذلك، فوقع في قلبي حلاوته، فلما كان بعد سنة، قال لي خالي‏:‏ "احفظ ما علمتك، ودم عليه إلى أن تدخل القبر" ، فلم أزل على ذلك سنين فوجدت له حلاوة في سري ثم قال لي خالي‏:‏ "يا سهل من كان الله معه، وهو ناظر إليه،وشاهد عليه، هل يعصيه‏؟‏ إياك والمعصية" ومضيت إلى المكتب، وحفظت القرآن، وأنا ابن ست سنين أو سبع، ثم كنت أصوم الدهر، وقوتي من خبز الشعير، ثم بعد لك كنت أقوم الليل كله‏.‏